الأستاذ والطالبه /قصة الكاتب عبده داود

الأستاذ والطالبة
18.8.2020
قصة قصيرة
كانت سميرة تستجلب الأجرة من الركاب، على متن حافلة والدها (الباص) في العاصمة، وهذا يحدث عندما يغيب معاون والدها.
هذا الأمر يجبر سميرة على الغياب عن محاضرات يجب حضورها في كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية في جامعة دمشق...
شاهدت الدكتور استاذها في الجامعة راكباً في باص والدها، استغربت الامر لأنها تعرف بأن استاذها يملك سيارة فاخرة، كذلك الأستاذ استغرب كيف سميرة تعمل جابية على متن باص عمومي... 
احتارت ما الذي ستقوله حتى تبرر غيابها عن محاضرات هذا الأستاذ الذي يشدد على الحضور الكامل في محاضراته، ويهدد  بترسيب  الذين يتغيبون، وصادف ذلك اليوم عندها حصتان   ضروريتان عند هذا الأستاذ...
تساءلت، ماذا ستقول  وهل من المعقول أن تأخذ منه اجرة الركوب... من المستحيل أن أقبل أجرة منه مهما حاول...
وصلت عند استاذها محتارة كيف تبدأ كلامها، فاجأها هو بالحديث وقال أهلاً سميرة كم أنا فخور بالصبايا العاملات،   
وسألها: كم هي اجرة الركوب؟ 
قالت: مجاناً لأساتذة الجامعات...
قال أنا الآن لست أستاذ جامعة، أنا الآن مواطن عادي راكب حافلة عامة، ويجب أن أدفع ما يتوجب علي؟
قالت محال، أن تدفع اجرة ركوب في حافلتنا...
بعد أيام قليلة، كانت سميرة واقفة عند موقف الحافلات المعتاد
تفاجأت بسيارة الدكتور استاذها في الجامعة تقف بجانبها، والح على سميرة الركوب معه...
سميرة في الحقيقة، لم تركب أبداً سيارة خاصة مع غريب، اقتربت سميرة من نافذة السيارة تشكرت الأستاذ واعتذرت قائلة لا، شكراً أستاذ لن أربكك،  أنا متعودة ركوب الباصات.
قال الأستاذ: ألست ذاهبة الى الجامعة؟
اركبي أنا مدين لك بتوصيلة وأريد أن اسددها... 
ركبت سميرة بجانب الأستاذ وتكاد تذوب من الخجل، ماذا يقول عنها الناس إذا رأوها راكبة مع شاب غريب، ومن أين   سيعرفون بان هذا الغريب هو استاذها في الجامعة؟  
سيراني زملائي وزميلاتي في الجامعة، ما الذي سيقولونه عني... ألف تساؤل وتساؤل مر بذهنها وهي مكتئبة.
لاحظ الاستاذ ارتباك طالبته، فسألها عن دراستها وكيف تحصل على المحاضرات عندما تتغيب عن الجامعة؟
قالت عادة استعير دفاتر زملائي، وانسخ ما سجلوه. احياناً افهم كتاباتهم، وأحيانا استعين بالله، وأقول لا حول ولا قوة إلا بالله...
قال الأستاذ وهل الله يعينك عندما تقصرين بواجبك؟
اجابت سميرة عندما يغيب معاون أبي، يجب أن أحل محله، نحن فقراء:  عندما لا نعمل لا نأكل...
ردد الأستاذ الجملة:(عندما لا نعمل لا نأكل).( عندما ل ندرس لا ننجح)
دخل الأستاذ الى مدرج الجامعة في نهار لاحق، كانت سميرة موجودة بين الطلبة، قال اليوم عندكم فحص في الأدب مفاجئ.
كتب على السبورة باللغة الفرنسية جملة... 
(عندما لا نعمل لا نأكل) وقال اكتبوا موضوعاً حول هذا القول. 
اعطى الدكتور سميرة كتاباً (نوته جامعية) وقال لها هذه محاضرات كل السنة بدل من استعارة دفاتر زملائك، مرة تفهمين، ومرة لا تفهمين...
احمرت سميرة خجلاً، وقالت شكرا جزيلاً،  وكتبت بخط كبير هذا أكبر بكثير من أجرة الركوب بالحافلة العمومية...
ضحك الأستاذ وحاول أن يخفي ضحكته امام التلاميذ...عندما فتحت سميرة الكتاب (النوتة) كان مكتوباً على صفحته الأولى بخط الأستاذ وتوقيعه: (اهداء الى معاونة الباص) وتحت الاهداء 
(إذا لا ندرس لا ننجح)، على مبدأ، (إذا لا نعمل لا نأكل)...
من تلك اللحظة قررت سميرة أن تحصل على العلامة التامة في مقرر ذاك الأستاذ...لأنها اعتبرت تلك الجملة تحدياً لها، وعليها أن تثبت جدارتها...وطبعا حتى تلفت نظر ذلك الأستاذ الشاب العازب، الوسيم والثري...الذي هو حلم جميع الصبايا... من أحلام اليقظة...
سميرة اجتهدت ودرست وسهرت وتعبت وأخيراً نالت وحصلت بنهاية السنة على علامات متفوقة ابهرت الأستاذ...
في ذلك الصيف، ذهبت سميرة مع أهلها الى دير مريم  العذراء في صيدنايا القريبة من دمشق، عادة تهرع الناس لمعاينة اعجوبة عندما تحدث  هناك، يذهب الناس للصلاة  وللمشاهدة والتحقق من الخبر...
فجأة سمعت سميرة صوتاً يناديها يا معاونة الباص... يا معاونة الباص... استغربت، من يناديها بهذا الاسم غير استاذها في الجامعة وسراً...
أصر الدكتور على دعوة سميرة وأهلها الى منزلهم الصيفي لتناول وجبة الغذاء عندهم...
الدكتور من أهالي تلك المدينة الباردة، يقضي الصيف هو وأهله فيها...
منزل يشبه القصر محاط بالأشجار والزهور... وجبة الغذاء كانت بجانب البحيرة بجانب مكان الشواء (الباربيكيو) وتحت ظلال الأشجار، أصرت سميرة أن تقوم بالشواء... 
راقبت ام الأستاذ سميرة، عندما لاحظت اهتمام ابنها بطالبته...جمالها الطبيعي بدون (مكياج)، كلامها اللطيف، روحها المرحة، ونعومتها... والذي أعجب الأم واستغرابها جرأة الفتاة عندما أخبرها ابنها بأن سميرة تعمل معاونة سائق الباص والدها... 
تشكر أهل سميرة العائلة المضيفة وكم افرح قلبهم شعورهم باهتمام الدكتور بابنتهم، ولو إن الامر لا يتعدى سوى الاعجاب المؤقت، وكيف لهم أن يحلموا بخطيب لابنتهم كهذا الشاب الذي جاء من عالم آخر غير عالمهم...
السنة التالية في الكلية، كانت السنة الأخيرة، ومن الواضح بان سميرة كانت تبذل مجهوداً غير اعتيادي في دراسة المنهاج. وقد لاحظ الجميع اهتمام الأستاذ بالطالبة سميرة... 
صار واضحاً بان سميرة عاشقة، غارقة في حب متجمداً، وحكمت عليه بالاختناق والموت... أين هي، وإين هو هذا الوافد من كوكب آخر...
الذي بات يصاعد حبها، الأستاذ  صار يتقصد المرور من الموقف بجانب دارها حتى يدعوها للركوب معه الى الجامعة، كذلك هي أصبحت تنتظر مروره بشوق لتركب معه. لم يعد يهمها ما يقوله الآخرون، هي بجانب الأستاذ حبيبها المستحيل...
كانت تحادث ذاتها وهي واقفة أمام المرآة، وتقول يا مجنونة، يا معاونة الباص، عليك أن تقتلعي جذور هذه العاطفة المستحيلة من قلبك ومن مخيلتك، عليك أن تحرقي هذا الحب الذي يملأ كيانك...هل تحبين رجلاً من عالم غير عالمك... 
في كنيسة في القصاع بدمشق/ مقابل المستشفى (الفرنسي) هناك يصلي الأستاذ عادة، شاهد سميرة وعيناها غارقتان بالدموع راكعة امام تمثال العذراء تصلي بحرارة...ربت على كتفها، سألها ما بك يا سميرة؟
قالت بان امها الآن في غرفة العمليات يجرون لها عملة اجتثاث المرارة بعد أن عانت من آلامها الكثير...
ربما كانت دموع سميرة هي التي فتحت شرايين قلب الأستاذ... وربما هو أعجب بحرارة الحب والحنان بقلبها....
تفاجأت سميرة بدخول الدكتور وأمه الى غرفة ام سميرة في المشفى وهما حاملان الورود وعلبة حلوى فاخرة....
قال الأستاذ، يطلبون في الكلية أستاذ مساعد من المتفوقين، وقد رشحتك لهذه الوظيفة...
قالت سميرة بذاتها ألا يكفيني حلم واحد، حتى يجلب لي هذا الأستاذ حلم ثاني أكبر مني...
مر شهر تقريباً، رن جرس الهاتف في بيت سميرة. 
كان الدكتور قال: متى نستطيع أن نزوركم أنا وامي لقد اشتقنا لكم...
كاد قلب سميرة يسقط من موقعه.
جاء الدكتور وأمه، قال: بداية اود أن ابارك لسميرة بتعيينها أستاذة مساعدة في كلية الأدب الفرنسي، وربما ستكون مساعدتي، وأتمنى أن أكون أنا مساعدا لها في المنزل، إذا وافقت أن تكون حبيبتي وشريكة عمري...
قالت سميرة: ماذا، ماذا قلت أستاذ؟ ارجوك أعد الذي قلته.
بقلمي: عبده داود

.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كرونا /الشاعر سعيد تايه.. عمان الأردن